التفرّد التكنولوجي والإنسان المعزّز: استراتيجيات النجاة في عصر ما بعد الإنسان


عبد القادر الكاملي. مستشار تكنولوجيا المعلومات

يعود الجذر المفاهيمي لمصطلح الذكاء الاصطناعي (‎Artificial Intelligence‎) إلى عام 1956 عندما صاغ عالم الحاسوب الأمريكي جون مكارثي (‎John McCarthy‎) هذا المصطلح رسمياً خلال ورشة دارتموث (‎Dartmouth Workshop‎) في الولايات المتحدة، والتي شكّلت الانطلاقة العلمية المنظّمة لدراسة إمكانية بناء أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري.
وفي عام 1965 نشر عالم الرياضيات البريطاني إيرا جون غود (‎I. J. Good‎) مقالة بعنوان "تأملات حول أول آلة فائقة الذكاء"، قال فيها: "بمجرد أن نصنع آلة فائقة الذكاء، فإنها قد تتمكّن من تصميم آلات أفضل، وحينها سيتفجّر ذكاء الآلة". تُعد هذه العبارة أول إشارة معروفة إلى فكرة تمكّن الآلة من تطوير نفسها باستمرار دون تدخّل الإنسان.
وفي عدد يناير/كانون الثاني 1983 من مجلة أومني (‎Omni‎) الأمريكية، نشر الكاتب والأستاذ الجامعي الأمريكي فيرنور فينج (‎Vernor Vinge‎) مقالة بعنوان الكلمة الأولى (‎First Word‎) ظهر فيها للمرة الأولى مصطلح التفرّد التكنولوجي (‎Technological Singularity‎)، لوصف لحظة مستقبلية يتجاوز فيها الذكاء الاصطناعي قدرات الإنسان، ما يؤدي إلى تحوّلات جذرية في الحضارة البشرية. شبّه فينج هذا التحوّل بالظاهرة الفيزيائية المعروفة باسم التفرّد الثقالي في مركز الثقب الأسود حيث تصبح الكثافة لا نهائية، وينهار عندها كلّ ما نعرفه من قوانين الفيزياء، فلا يعود التنبّؤ بما سيحدث لاحقاً ممكناً. وتوسّع فينج لاحقاً في طرحه خلال الندوة العلمية التي نظّمتها وكالة ناسا (‎NASA‎) وجامعة ولاية أوهايو بين 30 و31 مارس 1993، حيث قدّم ورقته الشهيرة بعنوان: "التفرّد التكنولوجي القادم: كيف ننجو في عصر ما بعد الإنسان؟"، والتي نُشرت في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1993 ضمن منشورات مؤتمر ناسا. تُعدّ هذه الورقة من أوائل الأعمال التي عالجت مفهوم التفرّد التكنولوجي بصورة منهجية، إذ ناقش فيها احتمالية ظهور ذكاء اصطناعي يتجاوز الذكاء البشري والتحديات التي قد تواجه البشرية في عصر ما بعد الإنسان.

من فكرة التفرد إلى التوقعات الحديثة
استعار المفكرون والمستقبليون هذا المصطلح لوصف لحظةٍ لا يمكن بعدها توقّع مسيرة التطوّر التكنولوجي، بسبب ظهور ذكاء يفوق البشر. فعندما يبلغ الذكاء الاصطناعي مرحلة تحسين قدراته ذاتياً بوتيرة متسارعة، يتضاعف ثم يتضاعف بسرعة أكبر، حتى تصبح وتيرة التطور خارجة عن السيطرة، وتصل البشرية إلى نقطةٍ يعجز فيها الإنسان عن الفهم أو التنبّؤ بما سيحدث لاحقاً. ومن الذين عمّقوا الفكرة ووسّعوها راي كرزويل (‎Ray Kurzweil‎)، المخترع والمفكر المستقبلي الأمريكي. في كتابه الشهير الذي نشره عام 2005 بعنوان "التفرّد قريب: عندما يتجاوز الإنسان البيولوجيا"، حيث تنبأ أن يبلغ الذكاء الاصطناعي مستوى الذكاء البشري عام 2029، وأن يصل إلى لحظة التفرّد بحلول عام 2045. وأكد توقعاته هذه في كتابه الأحدث الصادر في يونيو/حزيران 2024 بعنوان "التفرّد أقرب: عندما نندمج مع الذكاء الاصطناعي". ولم يَعُد كرزويل وحيداً في هذه الرؤية، فالعديد من روّاد هذا المجال باتوا يتوقّعون تفوّق الذكاء الاصطناعي على البشري قبل نهاية العقد الحالي، منهم إيلون ماسك، وداريو أمودي، وشين ليغ، وسام ألتمان.

مراحل التعلّم في مسار الذكاء الاصطناعي
يتطلّب بلوغ نقطة التفرّد تطوير قدرة الذكاء الاصطناعي على التعلّم، التي لا تزال في بداياتها. يمكن تقسيم مسار هذا التطوّر إلى ثلاث مراحل رئيسية، هي:
مرحلة تعلّم الآلة (‎Machine Learning‎) : حيث تتعلّم الآلة من البيانات وفق خوارزميات يضعها الإنسان، وتتطلّب إشرافاً وتصميماً بشرياً مستمراً. ولا تزال النماذج الراهنة مثل شات جي بي تي (‎ChatGPT‎) وجيميناي (‎Gemini‎) وديب سيك (‎DeepSeek‎) ضمن هذه المرحلة.
مرحلة التعلّم الذاتي (‎Self-Learning‎) : حيث يبدأ الذكاء الاصطناعي بالتعلّم من خبراته الخاصة دون تدريب جديد من الإنسان، لكنه لا يعيد تصميم نفسه. هذه المرحلة قيد البحث والتجريب حالياً، ويُتوقّع الوصول إليها تدريجياً خلال خمس سنوات تقريباً، وهي التي ستفتح الباب نحو الذكاء الاصطناعي العام (AGI).
مرحلة التحسين الذاتي التكراري أو العودي (‎Recursive Self-Improvement‎) : ظهر هذا المصطلح أول مرة في وثيقة للباحث الأمريكي إلييزر يودكوفسكي (‎Eliezer Yudkowsky‎) عام 2000 ضمن مشروعه المسمى الذكاء الاصطناعي كبذرة قادرة على النمو (‎Seed AI‎). وفق هذا المفهوم، يصمّم الذكاء الاصطناعي نسخة محسّنة من نفسه، فتبدأ حلقة تسارع أُسّي يصبح فيها كل إصدار جديد أكثر ذكاءً من سابقه، إلى أن يقود ذلك إلى التفرّد التكنولوجي. لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، لكنها تمثّل النهاية المنطقية لمسار الذكاء الاصطناعي الذاتي.

من الإنسان العاقل إلى الإنسان المعزَّز
في القمة العالمية للحكومات التي عُقدت في دبي بتاريخ 13 فبراير/شباط 2017، قال إيلون ماسك: "لن يكون بوسع البشر التنافس مع الذكاء الاصطناعي المتنامي، ولذا عليهم دمج الذكاء الاصطناعي بأنفسهم كي لا يصبحوا كائنات هامشية". السؤال: ماهي التقنيات التي يجري العمل عليها حالياً لتحقيق هذا الهدف؟

تقنيات تعزيز الإنسان: نحو كائنٍ هجين
- الزراعة العصبية (‎Neural Implants‎) : تهدف إلى تعزيز القدرات الإدراكية عبر رقائق إلكترونية تُزرع في الدماغ. المثال الأبرز مشروع نيورالينك (‎Neuralink‎) الذي أطلقه إيلون ماسك، حيث نجحت الشركة عام 2024 في زرع شريحة مكّنت مريضاً مشلولاً من تحريك مؤشر الحاسوب بعقله فقط.
- واجهات الدماغالحاسوب (‎BrainComputer Interfaces‎) : تمثّل جسراً بين النشاط العصبي والأنظمة الرقمية. مشروع (‎BrainGate‎) في جامعة براون مكّن مرضى الشلل من الكتابة على الشاشة بمجرد التفكير.
- الذكاء الاصطناعي المزروع (‎Embedded AI‎): تعمل شركات مثل آي بي إم (IBM) وغوغل هلث(‎Google Health‎) على تطوير شرائح نانوية تُزرع تحت الجلد لمراقبة المؤشرات الحيوية وتحليلها لحظياً. وتعمل جامعات ومراكز أبحاث عديدة على تطوير مشروع الغبار الذكي(‎Smart Dust‎) الذي يستهدف تصنيع جزيئات متناهية الصغر تحتوي على معالجات دقيقة ومستشعرات واتصال لاسلكي وقدرات حسابية تسبح داخل الجسد، وتمهد لعصر ما بعد الإنسان.
- الهندسة الجينية والنانوتكنولوجيا (‎Genetic Engineering & Nanotechnology‎) : مكّنت تقنية كريسبر كاس9 (‎CRISPR-Cas9‎) الخبراء من تعديل الجينات البشرية بدقّة عالية لعلاج أمراض وراثية أو تحسين صفات معينة لديه. ويجري أيضاً تطوير روبوتات نانوية (‎Nanobots‎) يمكنها السباحة في مجرى الدم لتدمير الخلايا السرطانية أو إصلاح الأنسجة المتضررة.

التزاوج بين الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي الفائق
يشهد العالم اليوم تسارعاً غير مسبوق تقوده خوارزميات الذكاء الاصطناعي من جهة، وتطوّرات الحوسبة الكمومية من جهة أخرى، والتي يتوقع أن تدخل مرحلة الاستخدام العملي خلال 5 إلى 10 أعوام. وإذا كان الذكاء الاصطناعي الحالي لا يزال يعتمد على عتاد تقليدي محدود، فإن دمجه بقوة الحوسبة الكمومية سيغيّر قواعد اللعبة بالكامل، فيزيد سرعة التدريب الذاتي آلاف المرات، ويقلص زمن دورات تحسين بنية الذكاء الاصطناعي المتتالية، ويتحقق بذلك التسارع الأُسّي عملياً، ما يفتح الباب واسعاً أمام التفرد التكنولوجي.

المخاطر الوجودية في عصر ما بعد التفرّد التكنولوجي
المخاطر الوجودية التي قد تنجم عن التفرد التكنولوجي ليست تلك التي تهدد توازن الأنظمة أو أسواق العمل أو الاقتصاد فقط، بل تلك التي تهدد وجود الإنسان نفسه كنوع. عند لحظة التفرّد، يصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على التفكير، والتصميم، والتحسين، واتخاذ القرار بسرعات تتجاوز الحدّ الإدراكي البشري بآلاف المرّات، مع احتمال كبير لانقسام البشرية إلى طبقة هجينة مُعزّزة بالذكاء الاصطناعي (ما بعد الإنسان) وأخرى طبيعية عاجزة، ما يهدد الهوية البشرية ويخلق شكلاً جديداً من العبودية.

استراتيجيات النجاة البشرية في عصر ما بعد التفرّد
تتطلب استراتيجيات النجاة البشرية في عصر ما بعد التفرد التكنولوجي تبني مسارات متعددة الأوجه، أبرزها إنشاء حوكمة عالمية للذكاء الاصطناعي تشبه المعاهدات النووية لمنع التسابق وفرض قواعد سلامة مشتركة. ويجب التركيز على نماذج من الذكاء الاصطناعي تفهم القيم الإنسانية وتلتزم بإطار أخلاقي. وللحفاظ على دور الإنسان، يجب تعزيز قدراته بالدمج مع الآلة بدلاً من استبداله، مع تقليل مركزية القرارات التكنولوجية بنشر ذكاء موزع. وفي النهاية، يبقى الهدف الأسمى هو الحفاظ على جوهر الإنسان كالوعي والإبداع والحرية.

هذه الاستراتيجيات ليست ضمان نجاة، لكنها خرائط احتمالية للاستمرار في عالم لن تكون فيه الحدود بين الإنسان والآلة واضحة كما نعرفها اليوم.

© All rights reserved. Manama Business News